خادومة تسقط النظام!!!



بدر بن سالم بن حمدان العبري
1432هـ/ 2011م








الفصل الأول:
بداية الوجود
1
       الرعد يبرق في السماء بقوة، والغيوم تلاحمت وكأنها بنيان مرصوص، وتحول النهار إلى ليل كئيب، وفي الحادية عشر ظهرا ظهر إلى الوجود كائن جديد من القطط، ولدتها أمها في بيت مهجور تحفه الأفاعي والحشرات، وتعلو جداره العلوي أشباك العنكبوت، في هذا المكان المهجور كانت بداية الحياة للقطة الجميلة، والتي أطلق عليها الناس خادومة لاسوداد لونها، مع جمال وتناسق شعرها، وبها شعيرات بيضاء تميل إلى الحمرة، وكأنها صبغت بالحناء الأحمر.

2
        شاء القدر أن تولد خادومة في هذا المكان، استيقظت في زمن تتعالى فيه شعارات جميلة: حرية مساواة عدالة ... بجانب الرفق بالحيوان، ما أجملها من شعارات ... وما أحلاها من مبادئ، هنا سيكون مستقبل خادومة مشرقا زاهيا، وستعمل بكل وسعها أن تؤدي وظيفتها في الكون كما أراده الرب لها، مع الاعتراف بمكانتها الحيوانية التي بها يحيا الكون، ويباشر سننه الطبيعية بكل اتساق بديع.



3
عانت خادومة ظلام البيت المهجور، وأشباحه المروعة، فقررت الخروج لأول مرة إلى الفضاء الخارجي، لتؤدي وظيفتها الطبيعية، وهي تنظر إليه بإشراق جميل، خرجت ببطئ شديد، واتبعت النور المنبثق من إحدى الزوايا، فإذا بها تلقي نظرة سريعة، وتجد عالما آخرا من البشر من غير جنسها يذهب ويأتي في زقاق ملأى بالقمامة والوساخة، وبيوت رثة قديمة بالية، يحفها طرق ضيقة تمر بها سيارات وعربات قديمة.

4
تجولت خادومة في هذه الطرق تحفها السعادة لاكتشاف المجهول، وهي تمشي بسرعة تارة، وببطء يسايره التأمل تارات كثر، وفي آخر الطريق استوقفت خادومة لافتة كبيرة  مكتوب عليها بخط كبير: ممنوع الدخول ... ففهمت خادومة منها ممنوع الدخول لا الصعود، فصعدت أعلى اللافتة الكبيرة، فأحدقت بصرها فإذا في المقابل بيوت وقصور كبيرة، تحفها الأشجار الكثيفة، وتجملها الزهور والورود، مع الطرق الواسعة، والسيارات الفخمة، فتصورت خادومة أن هذه جنة الدنيا لمن يجتهد ويجد، فينقل من تلك الزقاق الضيقة، إلى هذه الجنة الفسيحة، فتمنت أن يكون لعالم القطط نصيب منها.


5
سمعت خادومة صراخ طفل في إحدى الزقاق، فتبعت الصوت حتى وصلت إلى بيت قريب من السقوط، فصعدت في أعلى النافذة، فإذا به طفل ملقى على الأرض يعاني من مرض السرطان، وأمه تبكي بجانبه، تمد يديها إلى السماء طالبة الشفاء من الله الشافي، أما أبوه فيطلق اللعنة تتبعها لعنات على جهات لا تفقهها خادومة، وإنما أدركت من كلامه: أناس أغنياء يسفرن للعلاج بالمجان من جهدنا، وأطفال الفقراء لا يجدون من يرحمهم إلا الموت...

6
وعند اللافتة الكبيرة شاهدت خادومة ولدين في عمر الزهور، أحدهما بملابس بالية متقطعة، والثاني بملابس فاخرة، جمعتهما الطفولة البريئة، الأول يحمل عربة شديدة الحمولة، والثاني كتبا مليئة بالصور الجميلة، توقفا قليلا للعب، ثم افترقا كل في طريقه، أما الأول فذهب لتوفير مبلغ من المال لشراء حذاء بسط من البلاستيك، وأما الثاني ينتظر حافلته لتحمله إلى مدرسته خارج القرية.

7
اقتربت الشمس من الغروب، وبدأ الظلام الحالك، وخادومة لا زالت في اكتشاف المجهول، وفي منتصف الطريق شاهدت بيتا مقسما حوشه إلى غرف ضيقة، مبني أعلاه من الخشب البالي، ولا تتسع الغرفة الواحدة لأكثر من أربعة أشخاص، ولكن يسكنها أكثر من عشرة، لارتفاع الإيجار، فتصل الغرفة الواحدة لأكثر من مائة ريال، في حين لا يتجاوز أجرة العديد منهم مائتين ريالا، وفي الليل يتقاسمون النوم إلى ثلاثة أقسام، قسم في الغرفة تحت المبردات، وقسمين مع البعوض ورطوبة الجو.

8
في هذه القرية كان حظ خادومة، وفي هذا الزمن الكئيب كان ميلادها، فحملت أشواقا وآمالا، وقلبها ينبض بالكره والبغض للطبقية وأنانية الإنسان، ومما خفف من آلامها أنها كانت من عالم الحيوان، والذي يحمل براءة الوجود، مع عشق الحياة، ومصارعة البقاء، ومع هذا لم تسلم من شرور الطبقية، وانحراف الناس عن سنن الحياة الطبيعية.

         






الفصل الثاني:
الصراع من أجل الوجود
1
في زقاق القرية كانت تتنقل خادومة بحثا عن طعام تسد به رمقها، وتواصل به حياتها، وفي مزابل القمامة كان مطعما لها، تنبش فيه بشغف، وتسابق إخوانها القطط، لعلها تجد قطعة لحم، أو عظمة فخذ دجاج، فتفركه فركا، ليكون وجبة لذيذة ليومها، وأحيانا تمسكه بقوة، فتسرع بها إلى أحد الزوايا، حتى لا ينافسها فيه إخوانها من القطط، فتضيع وجبتها، فلعلها لا تجدها بعد يومها ذاك، فلطالما أكلت يوما، وجاعت أياما، ولكنا راضية بما يقدره الله تعالى لها من رزق يومها.

2
صدر من قبل رئيس البلدية مرسوما موقعا من نظام شيخ القرية، والذي يسكن في قصر فاخر، يتوسط قصره حديقة كبيرة، فيها بركة ماء عظيمة، تحفها الزهور والورود، ويتراود عليها الغلمان والفاتنات، وينص المرسوم بإبدال أماكن القمامة المفتوحة بأماكن مغلقة، بعد ما انتشر مرض الملاريا وأفتك العشرات قتلا ومرضا من أبناء الطبقة الأرضية، ولكنه عندما أصيب ابن مسؤول المياه، كان هذا المرسوم حتى لا ينتشر المرض أكثر بين أبناء السادة والأثرياء، وقد سُفِّرَ ابنُ مسؤول المياه مجانا على حساب مال بيت القرية، حيث سفر إلى ألمانيا للعلاج خشية أن يؤثر عليه المرض، في حين يئن أبناء الطبقة السفلى من الألم، ولا أحد يسمع لهم، ومُنِعَ الاختلاط بين أبناء حارة الأثرياء والرؤساء وباقي حارات القرية العتيقة.
3
        هذا المرسوم أثر تأثيرا سلبيا على خادومة وإخوانها من القطط، فلقد كانت القمامة المفتوحة مطعما لهم، يقيهم حرارة الجوع، ولم يراعِ هذا المرسوم حق الحيوانات في الحياة، أو يدرس القضية من جميع جوانبها، مما كانت بداية المعاناة مع الحياة القاسية في هذه القرية، ومع هذا لم تيأس خادومة فظلت تبحث لعلها تجد قمامة مفتوحة، أو يتصدق عليها أحد من البشر بقطعة لحم، أو عظمة جافة، ولكن هؤلاء أنفسهم يعانون شظف العيش، وقسوة الحياة.

4
        عقدت القطط اجتماعا شاركها الكلاب وإن كانت أحسن حالا بكثير، لأنّ العديد من كبار القرية يأخذونها للزينة والحراسة، ويشبعونها أكلا، ولكن شارك معهم المرضى والضعفاء والشمطاء من الكلاب، فخرج الاجتماع برأيين، الأول: بعث شكوى إلى منظمة حقوق الحيوانات للضغط على شيخ القرية، والثانية: الاستيلاء على الكائنات الحية والضعيفة كالدجاج والطيور، والتي يملكها أبناء القرية، فكان هذا رأي الأغلبية، في زمن القمع الذي ساد القرية، إذ لا يسمح أن يحتج أحد على المرسوم، أو يذكر عيوبه، لأن هذا مساس بشيخ القرية وكبارها من المسؤولين.


5
        أما خادومة فرفضت الرأيين، أما الأول فلمكانة القرية في نفسها، فهي وإن جار عليها أحباؤها في قريتها فتبقى كريمة في نفسها، وأعز من أن تتذلل لغيرها من القرى والمدن الأخرى، وأما الثانية فضميرها الحي يرفض أن يسطو على حق الآخرين بالطرق المحرمة، فلأن تموت جائعة أفضل لها من سرقة مال الغير، ولو أخذ بطريق محرم، وغير شرعي، فرفعت صوتها معترضة على الرأيين، وخرجت حزينة كئبية لما جرى في قريتها من ظلم وبغي.

6
        أصبحت حياة خادومة مظلمة عتيمة، كالحة وجهها، مكفهرة أسنانها، شاحبة قبساتها، تحولت الحياة إلى عجوز شمطاء تلطخت يداها بالظلم الفاحش، ولكن ماذا تفعل  خادومة وقد أنهكها الجوع، وأعياها المرض، فمالها إلا أن تأخذ رخصة السرقة لتواصل حياتها، وقد ضعف شمها من كثرة البحث عن طعام، فقررت أن تسرق ما تساقط من الأكل قبل أن يلقى في القمامة المغلقة، فتحولت من قطة أليفة إلى قطة مفترسة بفعل الزمن، وجرم الإنسان، وهي التي طبعت على الألفة والطواف في البيوت بكل أريحية وهناء.

7
        لقد كانت خادومة تنتظر وقت الغداء بكل شغف، تتسلق الجدران، وتراقب من في البيت، فما إن ينشغلوا قليلا، إلا وتقفز إلى المائدة لتأخذ ما تستطيع حمله من الأكل المتساقط، ولكنها هذه المرة باءت بالفشل، فقد دُبِّرَ لها حيلة ماكرة، فقد اقترب الغداء، فظنت المسكينة أنّ الكل على المائدة، ولم يخطر على بالها أن أحدا من أمن القرية يراقبها، بعد ما رفعوا ضدها قضية في الادعاء العام، فبينما كانت تهب بالقفز إذ تقع في شبكة الشرطة، فتحمل مربطة بالقيود، في مستقبل مجهول، ما كانت تتوقعه لولا ظلم الإنسان.

8
        أخذت خادومة مكبلة بالقيود إلى مركز الشرطة، وبعدها إلى الادعاء العام للتحقيق، فحاولت أن تبين لهم سبب سطوها على فضلات الموائد، ولكن لا فائدة، فالقطة تبقى مجرمة وإن قدمت الكثير لقريتها، فلولاها لانتشر الطاعون بسبب كثرة الفئران، ولازدادت الحشرات في القصور، ولو كان المرسوم عادلا للجميع لما أقبلت على السطو والسرقة، ومع هذا بسبب سرقتها لعظمة دجاجة بالية سقطت من فم ابن مسؤول التجارة بالقرية، فحكم عليها بالسجن ثلاث سنوات مع الأعمال الشاقة، وغرامة ألف ريال فقط لا غير !!!





                            

الفصل الثالث:
الانتقام
1
     ظلت خادومة في السجن ثلاث سنين مع الأعمال الشاقة، ولكن السجن كان أحب إليها، فهنا ليس عظام فخذ دجاجة مسؤول التجارة بالقرية، بل هنا دجاجة كاملة، تأكلها بكل هناء مملوء بالشفاء، فليست بحاجة إلى البحث عن طعام متهالك تفوح منه الروائح الكريهة بسبب فساده ومرور وقت على رميه، وبالأمس كانت تأكل يوما وتجوع يومين، أما في السجن فلها ثلاث وجبات رئيسة يوميا، فضلا عن المقبلات بين الفينة والفينة.

2
     في السجن تعرفت خادومة على طرق جديدة للعودة إليه مرة أخرى، فلا حياة أجمل من السجن، في وقت القمع والظلم، ففيه تعرفت مع بائع المخدرات، وكوّنت صداقة مع المتقنين في السرقة والسطو، فدخلت بذلك دورة تدريبية مجانية يعود فضلها إلى شيخ القرية والمسؤولين الكبار، فالرؤية أصبحت واضحة لمستقبلها، والخطط معدة للعودة إلى السجن مرة أخرى، فما عليها إلا التنفيذ، والتبشير بالفكرة لإخوانها من القطط.



3
     خرجت خادومة من السجن، وقررت أن تبدأ خطتها بمن أوقعها فيه، فكانت البداية مع مسؤول التجارة بالقرية نفسه، وهو رجل متكبر متغطرس، انتفخت وجنتاه بسبب السكر، وكثرة حلق لحيته، وبطنه متقدم إلى الأمام بسب كبره وانتفاخه، فبجانب كونه مسؤولا عن التجارة، إلا أنه استطاع أن يكوّن أكثر من ثلاثين شركه، بعضها باسمه، والعديد باسم أولاده وزوجته، وجميع مناقصات تجارة القرية تنفذها شركاته بثمن باهظ، في حين لا يسمح للابن القرية البسيط أن يمتلك أكثر من شركتين، وابنه الكبير له ثلاث عشرة شركة فقط!!!

4
     انتظرت خادومة وقت الغداء بكل شوق لتطبيق خطتها الجهنمية، فتتسلق الجدار تارة بعد تارة، فبينما كان مسؤول التجارة جالسا للغداء، وفمه قد امتلأ أرزا ولحما، فبينما قد انتهى من بلع ما بقي من اللحم في إحدى العظام، إذ تقفز خادومة لأخذه، فيمسك بها المسؤول، ويأخذها إلى غرفة ضيقة، فيقفل عليها الباب حتى لا تخرج، مع محاولتها للهروب، إلا أنّ عظم يديه وضخامتهما ساعده في الإمساك بها بقوة.

5
     فبينما كانت خادومة خائفة في تلك الغرفة المغلقة، وهي بين رجاء وخوف، بين رجوعها إلى السجن مرة أخرى لتتنعم بكرمه، وبين أن يفتك هذا المسؤول بحياتها كليا، هنا يدخل عليها قائلا لها: لك ما تشائين يوميا من اللحم والدجاج والسمك ومقبلاتهما بشرط واحد، وهو أن تحضري لي يوميا من دواجن وطيور مزارع القرية من أبناء الطبقة الأرضية - وذلك لكونه خائفا أن يصعد منهم في تجارته للحيوانات والزروع، فينافسه في تجارة القرية  - وإلا فليس مصيرك السجن؛ بل الموت!!!

6
    وافقت خادومة على طلبه على مضض، وذلك لكونه أفضل من حياة السجن، فهي هنا تتنعم حرة طليقة، ولأنّ للرجل سلطة في القرية فهو فوق قانون البلد، يسيره كيفما شاء، لأنّ قانون الغاب لا يطبق إلا على الضعفاء والغلابة، فظلت خادمة له مطيعة، تلبي طلبه بكل سرعة وإتقان، فيزيده حبا لها وإكراما، ويطمئن على سياسته الماكرة، فتجويع أبناء القرية يزيد في استعباده لهم، فلا يفكرون إلا في بطونهم وفروجهم، فيزدادوا عبودية فوق عبوديتهم له.

7
    أدرك أصحاب القرية الضعفاء ما فعله مسؤول التجارة بهم، فشكوا أمره إلى الادعاء العام، فعاتبه مسؤول الادعاء العام عتابا لطيفا، بعدما قُدمت له الحلويات الفاخرة، ومع هذا غضب هذا المسؤول واتصل بالمسؤول عن الإرشاد في القرية، فقال له عدّ خطبة هذا الأسبوع عن احترام الحيوانات، والرفق بها، وعدم الإساءة بها ولو ساءت واعتدت، فكانت خطبة الصوامع، المصكوكة بغفران السادة فيها التالي: أيها الناس، لقد دعت الشرائع السماوية إلى الرفق بالحيوانات، وخاصة القطط، فهي من الطوافين عليكم، فأحسنوا إليها إحسانا، ولو ارتكبت جرما فاحشا، فقابلوا الإساءة بالإحسان، والجرم بالمكافأة، ولو ضربتك القطة في خدك الأيسر فأعطها خدك الأيمن، لتنال الأجر في الدنيا، والنعيم في العقبى.

8
       عندما سمع ضعاف الناس والمتحمسين من الطبقة الأرضية، والمحبين للعدالة الاجتماعية في صومعتهم هذه الخطبة العصماء، فإذا كانت الحيوانات والقطط بهذه المكانة والعظمة؛ فكيف بالإنسان المكرم، والذي أهين ماء وجه، وتمرغ في التراب ذليلا، ذهبوا إلى المسؤول عن الإرشاد في القرية، ليقول الحق في كرامة الإنسان الذي وضعه الخالق العظيم، ويبين للجميع العدالة الاجتماعية في شرائع السماء، وتحريمها للظلم والطبقية، فوعدهم المسؤول خيرا، فكانت خطبة عصماء تضمنت التالي: أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا مسؤوليكم، ولو قصموا ظهوركم، وأكلوا أموالكم، وجدعوا أنوفكم، فطاعتهم من طاعة الله والرسول، وعصيانهم الخلود في جهنم وبئس المصير، ألا تحبون الحور العين! والنعيم الأبدي!، فاقنعوا في دنياكم، وعليكم بالسمع والطاعة لمن تولى أموركم، واذكروا نعمة الأمن والأمان، فقد ربوكم ومنوا عليكم بالنعيم، فردوا الإحسان إحسانا بالطاعة المطلقة، والولاء التام، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.



الفصل الرابع:
المشنقة
1
    بينما كانت خادومة في طريقها للسطو شاهدت صراخا وعويلا، فتقدمت فإذا البيت نفسه الذي شاهدته يوم خروجها من كوخ ميلادها، فتقدمت قليلا فإذا ذلك الطفل الوديع، والذي لم يجاوز الخامسة من عمره؛ ودّع القرية إلى عالم الآخرة، وترك والدية الفقيرين يعيشان ألم الفراق، وقد كان ابنهما الوحيد، والذي طالما مسح لحية أبيه، ليهوّن عليه ألم الحياة، ولطالما مسح الدموع من أمه المسكينة الذي لم يرحمها شيخ القرية ومسؤوليها الكبار وهما يتمتعان بجهد هؤلاء، وأولادهم يسّفرون خارج القرية ومن حسابها الخاص، والذي هو ملك للجميع، لا للعلاج؛ ولكن للنزهة والترفيه، ولكن مع هذا مرض السرطان لم يشفع لهذا الولد الحنون ولو حفنة من المال، لعله يجد علاجا بسيطا له ولو إلى حين ...

2
    هنا بدأت خادومة تراجع نفسها، إلى متى تظل عبدة لهؤلاء الظلمة، إلى متى تبيع مبادئها وقيمها، ألا تستحق هذه القرية أن ترجع شيئا من جميل صنعها، أليست القرية للجميع، أليس الإصلاح أمر أوجبه الله تعالى وقدّمه على الفرائض الخمس، أولم يضحي أنبياء الله من أجل الإصلاح، إذا لماذا نرضى بالذل والمهانة، لماذا لا نجعل قريتنا أفضل من قرية سرانفيكو، فهذه القرية أهلها لا يدينون بدين، ومع ذلك قانون العدالة يحكمهم، لأنهم استفادوا مما خلفه أجدادنا، وضحوا من أجلها، أما نحن فبعنا هذه المبادئ بثمن بخس دراهم معدودة رضا للشيوخ و.....

3
   فكرت خادومة في وسيلة الإصلاح في بلادها، وحاولت جس النبض، إلا أنّ أكثر الناس خوّفوها، فمنهم من يقول: ستحملين في جونية فلفل، ومنهم: اقنعي وارضي، ومنهم: من أنت حتى تنتقدي شيوخ القرية، ولكنها أبت إلا أن تحقق هدفها، ولو كان في مقابل حياتها، فعزة الموت ولا ذلة الحياة، فقامت تقرأ في القوانين، ووسائل الإصلاح، فاهتدت إلى وسيلة الاعتصام السلمي، فقرأت فيه بعمق، وفكرت فيه مليا، فوجدتها أنسب طريق، ولتبدأ لعل الله يجعل من هذه الوسيلة خيرا كثيرا للقرية الجميلة، وللأجيال المقبلة.

4
      أخذت خادومة لوحة بيضاء كبيرة: وكتبت عليها: معا يدا بيد مع شيخ القرية للإصلاح، لا للفساد نعم للإصلاح، مال القرية حق الجميع، لا للمحسوبية نعم للعدالة، التعليم والصحة حق لكل أفراد القرية، نعم للرقابة المالية والإدارية، القانون فوق الكل ... وغيرها من الإصلاحات ... واختارت مكان اللوحة والذي كتب عليها: ممنوع الدخول، مكانا لاعتصامها، بعيدا عن قطع الطريق ومضايقة الآخرين.

5
      اعتصمت خادومة، وأدى اعتصامها إلى غضب المسؤولين الكبار ... خادومة تتطلب الإصلاح ... ماذا يا خادومة أكنا نعيش في فساد، يا خادومة ألم نربك فينا وليدا، ألم نطعمك ونسقيك، أنسيت فخذ الدجاج الذي تتنعمين به ... جاء إلى خادومة مسؤول الإسكان ... وقال لها سنعطيك أرضا كبيرة ... ووظيفة ذات راتب خيالي، وسيارة فخمة يسوقها كلب مطيع لك، ومع هذا رفضت خادومة جميع إغراءاتهم؛ لأنها جاءت لمبدأ أكبر من هذا، لم تأت لنفسها، ولكن للقرية بجميع أفرادها ... فهاج الغضب المسؤولين ... فشنوا حملة إعلامية ضدها، فمسؤول الإعلام شن في قنواته أنّ خادومة تريد الإفساد في القرية، وإسقاط شيخها، وأتى بدليل من الادعاء العام أنها تحمل معها سلاحا أبيض ... ألا هو ريشة دجاجة أخذته خادومة لتبريد حرارة الجو، ومع هذا ريش الدجاج سلاح يهدد أمن القرية، ومسؤول الإرشاد أصدر خطبة عصماء في طاعة ولي الأمر، والركوع لهم، ولو سلبوا خيراتنا، وأكلوا أموالنا، فطاعتهم ولو بغوا من طاعة الله، وعصيانهم يقود إلى غضب الرب.

6
    جلست خادومة لوحدها في اعتصامها صابرة صامدة، واثقة بربها، متوكلة على خالقها، وأثناء جلوسها مرت عليها نملة تمشي إلى بيتها تحمل لعيالها من خشاش الأرض، ومر في الطريق شيخ عجوز جاوز عمره المائة سنة، أكله الفقر وقسوة العيش، ليلقي نظرة إلى تلك القصور الفخمة، يلقي نظرة من بعيد، لأنه ليس من الجنس الذي يسمح له بالدخول، لعله يجد مثلها وهو ينتظر فراقه للحياة بشغف، فنظر إلى خادومة نظرة إعجاب، ومسح على رأسها قائلا لها: اصبري ... الله مع الحق والعدل، والحياة لا تدوم، وعند الله يحلو اللقاء، لأنه لا يظلم أحدا أبدا ... هنا جاءت سيارة أمن القرية ... يوجد بها ذئاب ملثمة، في لباس دهم سود، فأخذوا خادومة بقوة، وكسّروا لوحتها، وأخذوا السلاح الأبيض منها، وقيدت إلى المحاكمة.

7
        في غرفة التحقيق الضيقة أقرت خادومة أنها لم تأت لإسقاط شيخ القرية، ولكن للإصلاح في القرية، وسئلت من كان معها، فقالت لا أحد، ولكن المخابرات أوصلت أنه مر أسفل منها نملة صغيرة، ومسح رأسها شيخ عجوز، فاعترفت بذلك، فحكمت المحكمة بعد استجواب دام نصف شهر، وتعذيب نفسي وبدني التالي: حكمت المحكمة حضوريا على المدعوة خادومة بالإعدام شنقا وسط حضور أهل القرية، لكونها كانت تحل سلاحا أبيضا يهدد أمن القرية، ولأنها في اعتصامها تسيء إلى المسؤولين أصحاب الكروش الواسعة، ولآنها تريد إسقاط نظام شيخ القرية، كما أنها حكمت بالسجن أربعين سنة للشيخ العجوز لأنه مسح على رأسها، وهذا يهدد النظام، وعلى النملة حكمت بالسجن ثلاثين سنة لأنها مشت قريبا منها وهذا يهدد أمن الدولة.



8
     وإلى المشنقة حملت خادومة، رافعة رأسها، شامخة بنيانها، لأنها لم تشنق خيانة لوطنها، بل من أجل مبدأ سيكون شرارة لمن يأتي بعدها، قائلة لهم: والناس والكلاب والفئران والقطط والنمل وغيرها من الكائنات قد تجمعوا صفوفا حولها: لا تظنوا أنكم تفقدون نفس خادومة، بل بشنقي ستُكتبُ لكم الحياة، وتعم بينكم العدالة، فالمبادئ لا تباع رخيصة، إني لا أفارقكم ولكنني عشقت لقاء الله، وبعت نفسي رضا له سبحانه، إنني موقنة بأني سأحيا معكم ولن أموت، فشهادتي للحق حياة لكم، ومجد لأبنائكم وأحفادكم ... شنقت خادومة وهي تردد التوحيد، وفارقت الحياة مطمئنة راضية، ومع هذا تحول نفسها إلى دم يجري في كلّ أبناء القرية، ليصنعوا المجد لقريتهم، والمستقبل لأبنائهم.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Walgreens Printable Coupons | تعريب وتطوير : قوالب بلوجر معربة